
عادل خفاجي يكتب: السيسي.. مهندس السياسة الدولية وصانع التوازنات الصعبة

في المشهد السياسي العالمي، لا يمر حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي مرور الكرام. في كل محطة دولية، يترك أثرًا واضحًا يفرض نفسه على حسابات قادة العالم. ومن يتتبع مسار السنوات الأخيرة يدرك أن للسيسي قدرة استثنائية على إدارة العلاقات الدولية بأسلوب يجمع بين الحسم والهدوء، ويحوّل خصوم الأمس إلى شركاء اليوم، أو على الأقل إلى أطراف تحترم الموقف المصري وتعامل القاهرة بجدية مطلقة.
مفارقات الحضور المصري
الدهشة التي يبديها المراقبون من طريقة تعامل قادة العالم مع السيسي ليست بلا أساس. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار القاهرة وانتهى لقاؤه بإعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية. أما رئيس إندونيسيا، الذي كان يتحدث في البداية عن استضافة الفلسطينيين مؤقتًا، فغيّر موقفه بعد لقاء السيسي وأعلن رفضه القاطع لأي تهجير قسري.
كما دخل ملك إسبانيا بوابة القاهرة ليصبح أول زعيم أوروبي يعلن انحيازه للقضية الفلسطينية، فاتحًا آفاق تعاون بحري وتكنولوجي مع مصر. هذه التحولات ليست صدفة، بل ثمرة سياسة مصرية هادئة ومرنة تراكمت نتائجها عبر السنوات، وظهرت أيضًا في مصافحة السيسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد سنوات من التوتر، واستقبال الفريق أول عبد الفتاح البرهان له في الخرطوم، ومشهد نانسي بيلوسي وهي تتشبث بذراعه بعد أن كانت من أبرز المعارضين لثورة 30 يونيو.
من ميركل إلى سيمنز… تحولات مواقف الكبار
حتى الدول التي اتخذت مواقف حادة من مصر أعادت حساباتها. فأنجيلا ميركل وصفت ثورة 30 يونيو في البداية بأنها انقلاب، لكنها بعد لقاء واحد مع السيسي خرجت لتعلن دعم جهود مصر في مكافحة الإرهاب، وأرسلت ألمانيا شركة “سيمنز” لبناء أكبر ثلاث محطات كهرباء في تاريخ مصر. هذه التحولات تعكس الثقة في استقرار الدولة المصرية ورؤية قيادتها.
معادلة القوة الهادئة
لفهم موقع القاهرة الجديد في المعادلة الدولية، يكفي النظر إلى زيارة السيسي إلى موسكو بعد 30 يونيو، حين كان لا يزال وزيرًا للدفاع. استقبله بوتين في مقر القيادة الاستراتيجية للجيش الروسي — وهو موقع لم يُسمح حتى لرئيس الصين بدخوله. وفي نهاية الزيارة، أهداه بوتين جاكته الشخصي ووافق على جميع طلبات مصر في مجال التسليح. كانت تلك الزيارة اعترافًا دوليًا مبكرًا بمكانة مصر المتجددة.
القضية الفلسطينية… محور ثابت
في قلب كل هذه التحركات، ظلت القضية الفلسطينية حجر الزاوية في السياسة المصرية. مصر لم تغيّر موقفها منذ عقود، متمسكة بـ: رفض التهجير القسري،التمسك بحل الدولتين،الحفاظ على الأمن القومي المصري،دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
هذا الثبات منح القاهرة رصيدًا استراتيجيًا جعلها البوابة التي لا يمكن تجاوزها في أي تسوية للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
شرم الشيخ.. عاصمة السلام
استعادت شرم الشيخ دورها التاريخي كعاصمة للسلام. فقد استضافت قمة عالمية شارك فيها أكثر من ثلاثين زعيمًا، بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. في مشهد عالمي مهيب، تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب على غزة، مؤكّدًا الدور المحوري لمصر في رسم ملامح المرحلة المقبلة.
ترامب.. من التهجير القسري إلى القبول بالموقف المصري
بعد محاولات ترامب فرض التهجير القسري على سكان غزة، واجه موقفًا مصريًا حاسمًا لا لبس فيه، عبّر عنه السيسي بقوله: «لا للتهجير» و«التهجير خط أحمر». القاهرة رفضت أي مساس بالثوابت الفلسطينية، مؤكدة أنها لن تساوم ولن تكون طرفًا في تصفية القضية.
ومع استمرار هذا الرفض الصلب، وبعد شهور من الضغوط والمناورات، اضطر ترامب للتراجع وطرح مبادرة لإنهاء الحرب في غزة، في اعتراف واضح بالدور المصري المحوري. وخلال قمة السلام بشرم الشيخ، أشاد ترامب بدور مصر والسيسي في إنجاح الاتفاق التاريخي، مؤكدًا أن مصر ستظل طرفًا رئيسيًا في أي مسار سياسي أو تسوية.
دبلوماسية وقف النار وصناعة التوافق
فتحت القاهرة قنوات اتصال مع جميع الأطراف: الفصائل الفلسطينية، الحكومة الإسرائيلية، الإدارة الأمريكية وعدد من العواصم الإقليمية والدولية. وبفضل خبرتها المتراكمة، تحولت إلى الوسيط الأكثر قبولًا، وتم تثبيت أربعة خطوط أساسية في الاتفاق:
وقف شامل وفوري لإطلاق النار، رفض أي تهجير قسري،
ضمان تدفق المساعدات الإنسانية، فتح مسار سياسي لإعادة إطلاق عملية التسوية.
فريق التفاوض المصري
كان لرجال جهاز المخابرات العامة دور محوري في هذا النجاح. أداروا جولات تفاوضية معقدة بهدوء وثبات، وفقًا لتكليفات السيسي، حتى تم التوصل إلى اتفاق شرم الشيخ. ولم يقتصر الدور المصري على الضغط السياسي، بل شمل تأمين غطاء دولي بالتنسيق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، مما منح الاتفاق وزنًا دوليًا غير مسبوق.
صورة الزعيم الموثوق
رسخت هذه الأحداث صورة السيسي كزعيم قادر على جمع المتناقضين وإدارة الملفات الحساسة بلغة المصالح لا الشعارات. القاهرة اليوم قوة استقرار لا يمكن تجاوزها، وشريكًا موثوقًا في ملفات الأمن الإقليمي والدولي.
من رصيد التاريخ إلى معادلة المستقبل
منذ ثورة 30 يونيو، أعادت مصر بناء سياستها الخارجية على أسس راسخة، لتصبح لاعبًا محوريًا في قضايا الإقليم. من تبدّل مواقف خصوم الأمس إلى اكتساب شرعية الوساطة في ملفات الحرب والسلام… أصبحت القاهرة مؤثرًا رئيسيًا في صياغة موازين النفوذ الدولي.
في عالم مضطرب يبحث عن نقاط توازن، تبدو القاهرة — بقيادة السيسي — أحد الأعمدة القليلة التي تجمع بين الحضور السياسي القوي، والدبلوماسية الهادئة، والقدرة على صناعة التوافقات. شرم الشيخ اليوم ليست مجرد مدينة على البحر الأحمر… بل عاصمة صناعة السلام من قلب الشرق الأوسط.